احترقت طائرة الخطوط الجوية اليابانية تماما بعد اصطدامها بطائرة أخرى لم يكن مقررا لها أن توجد على مدرج الهبوط ، لكن أحدا من ركابها لم يصب بأذى، فقد تم إخراج جميع ركاب الطائرة، البالغ عددهم 379 راكبا، سالمين. حوادث الطيران ليست أمرا نادرا، لكن إنقاذ كل هذا العدد من الركاب من طائرة تحترق هو أمر نادر الحدوث. هذا هو الخبر الحقيقى الذى جذب اهتمام الإعلام العالمى أكثر مما اجتذبه الحادث نفسه

لم يكن من الممكن إنقاذ ركاب الطائرة اليابانية لولا الكفاءة الشديدة لطاقم الطائرة فى تنفيذ عملية الإخلاء، والثقة الكاملة التى وضعها الركاب فى الطاقم، فانصاعوا تماما لتعليماتهم، وتركوهم ينفذون خطة الإخلاء دون تدخل أو مخالفة أو اجتهاد عشوائى. كيف وصل الطاقم إلى هذا المستوى من الاحتراف والمهنية فى تنفيذ الإخلاء، وكيف وضع ركاب مهددون بالموت ثقتهم فى أغراب لا تربطهم بهم صلة شخصية. هذا هو السبب فى عملية الإخلاء الناجح، وهو على الأرجح أيضا ضمن أسباب معجزة التقدم اليابانية

يجتاز طواقم الطائرات اليابانية تدريبا على إخلاء الركاب لمدة ثلاثة أسابيع، يتدربون فيه على كل شىء، بما فى ذلك ما الذى يجب على فرد الطاقم قوله عند وقوع الحادث، وبأى طريقة وبأى طبقة صوت، لكى يتأكد من أن رسالته قد وصلت للركاب، وأنها بثت فيهم الثقة، ودفعتهم للامتثال لتعليمات الطاقم. الأرجح أن فرد الطاقم يصل إلى سن التقاعد قبل أن تأتيه الفرصة لاختبار مهاراته فى إخلاء الركاب وقت الحادث، ومع هذا فإنه يمر بنفس التدريب مرة جديدة كل عام، وفى كل مرة يأخذ المدربون والمتدربون الأمر بجدية كاملة كما لو كانوا يمرون به لأول مرة

تتسم الثقافة اليابانية بشيوع الشعور بالذنب لو حدث وخان الفرد الأمانة أو قصر فى أداء الواجب. سمعنا كثيرا عن يابانيين ينتحرون عندما يفشلون لأنهم لا يستطيعون مواصلة الحياة محملين بشعور ثقيل بالذنب بسبب الضرر الذى تسببوا فيه لآخرين. يختلف هذا عن ثقافة وتركيبة نفسية أخرى لا يشعر فيها الفرد بالذنب لو أضر بالآخرين بسبب خيانته الأمانة أو تقصيره فى تحمل المسئولية، وإن كان يخاف العار الذى يلحق به لوتم ضبطه متلبسا. الذنب هو شعور وحافز داخلى يمارس أثره حتى لو لم يكن هناك من يعرف بالخطأ الذى تم ارتكابه. العار هو عقاب اجتماعى، يضبط سلوك الأفراد من الخارج، لكنه لا ينفذ إلى دواخلهم. تحولت الثقافة اليابانية خلال القرن الأخير من العار إلى الذنب، بما يؤكد قابلية القيم الثقافية للتطور. أظن أن ميل اليابانيين لإتقان عملهم صلة بتركيبتهم النفسية الثقافية المميزة

كان يمكن لركاب الطائرة اليابانية المحترقة أن يصابوا بالهلع، وبالتالى يتدافعون للهروب من الطائرة، ويدوسون فوق بعضهم البعض، ويدهسون حتى أفراد الطاقم وهم يحاولون فتح الأبواب وتهيئة معدات الهروب. كان يمكن للركاب أن يمطروا أفراد الطاقم بأسئلة كثيرة فيشتتوا انتباههم. كان يمكن لهم أن يصرخوا فى فزع، فيشيعوا الهلع، ويحرموا الطاقم من التركيز الضرورى لإتمام عملية الإنقاذ. لم يحدث شىء من هذا، وكل ما حدث هو أن أفراد الطاقم طلبوا من الركاب البقاء فى مقاعدهم حتى يأتى دورهم فى الهروب، وأن عليهم خلع الأحذية وترك كل أمتعتهم خلفهم. تصرف الركاب بانضباط تام، فخلعوا جميعا أحذيتهم حتى لا تتعرض زلاجات الهروب للتمزق، ولم يحاول أى راكب اصطحاب حقيبته الشخصية مهما كان فيها من أشياء ثمينة. لهذا تمت عملية الإنقاذ بسرعة ونجاح تامين

لم يكن الركاب اليابانيون ليتصرفوا بهذه الطريقة لولا أنهم يثقون فى أن أفراد الطاقم يعرفون ما يجب عليهم عمله فى مثل هذه المواقف، وأن ما يقولونه هو بالضبط ما يقصدونه، وليس مجرد كلام يقال لكسب الوقت والتهدئة، وأنهم لن يحاولوا إنقاذ الركاب المميزين أولا، ولكنهم سيطبقون قواعد وترتيبات الإخلاء بحرفية كاملة

الذنب والثقة قيمتان ثقافيتان متكاملتان.يؤمن اليابانيون بأن الشخص السوى يشعر بالذنب إلى الدرجة التى تمنعه من التورط فى الخطأ، وأنه لن يحاول التغطية على الخطأ إذا وقع، بل إنه سيقر بالحقيقة ويتحمل المسئولية، ولهذا فإن كل شخص مستعد أن يضع ثقته فى كل شخص آخر

بينت الأبحاث أنه كلما زادت الثقة المتبادلة بين الناس، تحسن شعور الناس بالرضا عن حياتهم. هذا أمر يوافق المنطق تماما، وهو نفس ما تعكسه خبرتنا الواقعية. فمن الصعب جدا على الفرد أن يكون راضيا عن حياته لو كان يشعر بأنه محاط بأشخاص من الخونة المتربصين، الذين يتحينون الفرصة للانقضاض على ممتلكاته أو حرمانه من منجزاته، أو الإساءة إلى سمعته. هل لدينا بعض من هذا؟ هل يتسبب هذا فيما يشعر به كثير منا من عدم رضا عن حياته؟ ربما

عندما بحثت فى الأمر لفت نظرى العدد الكبير من الدراسات التى نفذها باحثون يابانيون عن الثقة المتبادلة بين الأفراد فى المجتمع اليابانى، وعلاقتها بالرضا عن النفس وقبول النظام الاجتماعى والسياسى واحترام السلطة والامتثال لتعليماتها والشعور بجودة الحياة. رغم شيوع هذه القيم الإيجابية فى المجتمع اليابانى، لا يكف الباحثون هناك عن اقتراح برامج فى التعليم والإعلام والسياسات لزيادة الثقة بين الناس، وأظن أن هذا هو أحد أسرار معجزة اليابان، وأن لديهم فى هذا الخصوص الكثير الذى يمكن تعلمه

كتابة : الدكتور المهندس/ نبيل صحصاح
من أًوائل الذين حصلوا علي الدكتوراه من اليابان (جامعة أوساكا)